الثلاثاء، 8 يونيو 2010

الفصل 16

مرت خمس سنوات منذ اعتقلت أمينة المفتي، وفي نوفمبرعام 1979 تحديداً، نشطت تحركات الصليب الأحمر الدولي، وتكثفت الاتصالات مع الفلسطينيين من أجل مبادلتها. وكان العرض الصهيوني هزيلاً قياساً بجواسيس آخرين، فقد أبدوا رغبتهم في مبادلتها بفلسطيني واحد، شريطة ألا يكون متهماً بقتل يهود من المدنيين أو الجنود. فرفض عرفات العرض ، واشترط لمبادلتها الإفراج عن اثنين من أشهر الفدائيين الفلسطينيين بمعتقل عتليت، وهما: محمد مهدي بسيسو المولود عام 1941 في غزة والمحكوم عليه بالمؤبد لقيامه بعملية فدائية بواسطة زورق عام 1971، وأسفرت عن مقتل وإصابة عدد كبير من الصهاينه.
ووليم نصار المولود عام 1942 في القدس، والمحكوم عليه بالمؤبد أيضاً لقتله ثلاثة صهاينه عام 1968 بالقدس.
لكن الرد الفلسطيني قوبل بتعنت شديد للعدو، وأسر ممثل الصليب الأحمر لعرفات بأن أمينة لا تساوي شيئاً عند اليهود، فهم يصنفونها على أنها مجرد خائنة لوطنها، باعت دينها وأهلها من أجل نزوة، ومن المستحيل أن تخلص تماماً لهم أو تدين لهم بالولاء. وذكره الممثل الدولي بما حدث للمهندس السويسري الفريد فرانكشت الذي أدين بالسجن ثماني سنوات عام 1971، عندما تبين أنه أمدّ العدو بعدة أطنان من تصميمات الطائرات الفرنسية ميراج 3، بعد تجنيده لأسباب أيديولوجية تتعلق بعقدة الذنب، وعندما أفرج عنه بعد أربع سنوات ونصف السنة، قرر السفر لفلسطين لحضور الاحتفال بإنتاج الطائرة "كافير" – النموذج المعدل من الميراج 3 – فرفضت الموساد أن تدفع ثمن تذكرته من سويسرا، وقوبل هناك بتجاهل تام، وشعر أنه تعرض للنسيان والتخلي عنه، ذلك أن مهمته انتهت ولم يعد ذا شأن. لكن عرفات لم يأبه لذلك. ولم يتراجع قيد أنملة عن مطلبه، وصرح لممثل الصليب الدولي أنه يتعرض لضغوط شديدة للموافقة على إعدام أمينة المفتي. وأنه طالما يرفض العدو الاستجابة والمرونة، فقد يوافق على إعدامها أمام شاشات التليفزيون لتكون عبرة لكل من يفكر في التعامل مع الموساد. وعندها، أصيب رئيس الموساد إسحاق حوفي (1974 – 1982) وكبار مساعديه بالذعر. فإعدام أمينة على الملأ أمام العدسات أمر خطير من شأنه إصابة جواسيس الموساد في البلاد العربية بالهلع وبالشلل، وقد يتسبب في تعطيل عمل شبكات عملائها المذعورين التي أنفق عليها ملايين الدولارات، مما يهدد تدفق سيل المعلومات الحيوية التي يعتمدون عليها ، سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً، وكان قرار إسحاق حوفي النهائي تلبية مطلب الفلسطينيين على أن يترك لمنظمة الصليب الأحمر العالمية حرية اختيار الدولة التي ستتم عملية المبادلة على أرضها وتحت حمايتها، بما يضمن الحيلولة دون وقوع كارثة قد يفكر بها الفلسطينييون.

وعلى ذلك . . نشطت المنظمة العالمية في اتصالاتها، ورفضت حكومة إيطاليا واليونان وبلغاريا وفرنسا التدخل، بينما وافقت حكومة تركيا ورومانيا وقبرص على تأمين الحماية التامة للطرفين فوق أراضيها وفي أجوائها، وتعهدت جميعاً بتوفير أقصى درجات الأمن لإتمام عملية المبادلة بسلام. من جانبها أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية ترحيبها واختيارها لدولة قبرص، وأعلن العدو موافقته على قبرص أيضاً، شريطة تدخل ممثل عن الأمم المتحدة لضمان الأمن، فأغضب الشرط القبارصة الذين اعتبروه "عدم ثقة" في قدراتهم على تحمل المسؤولية كاملة. لكن سفير العدو في قبرص تقدم باعتذاره في الأول من فبراير 1980 وأبدى ثقته في السلطات القبرصية مشيداً بالعلاقات الحميمة بين البلدين وبالمصالح المشتركة بينهما. ولم يمض سوى يوم واحد حتى أعلن وزير الداخلية القبرصي، بأنه قد تحدد يوم 13 فبراير 1980 موعداً لعملية التبادل على أرض مطار لارنكا الدولي، وإغلاق المطار أمام الملاحة الدولية ابتداء من الساعة 14.00 حتى الساعة 2.50 (!!)



قراءة سريعة

تخضع عمليات تبادل الجواسيس أو الأسرى بين الدول لقياسات معقدة، تحددها الملابسات السياسية وظروف العلاقات بين الدول في حالات السلم، وتكون أكثر تعقيداً في حالات الحرب والتناحر. وقد شهدت المنطقة العربية حالات تبادل عديدة وفريدة مع العدو ، كان أبطالها جواسيس عباقرة وعسكريون. حيث جرى التبادل أحياناً في سرية تامة وتعتيم إعلامي، وأحياناً أخرى صاحبه ضجيج الإعلام على الملأ. وأشهر عمليات التبادل كانت بعد هزيمة يونيو 1967 عندما تمت مقايضة الجاسوس الصهيوني ولفجانج لوتز بعدد ضخم من العسكريين المصريين الأسرى. وقد تبجح العدو فيما بعد أن ثمن لوتز كان خمسة آلاف أسير مصري، رغبة في الدعاية لجواسيسه وإعلاء لشأنهم. أما جاسوسة الموساد المصرية انشراح علي موسى التي أدينت بالإعدام شنقاً هي وزوجها إبراهيم سعيد شاهين في 25/11/1974، فقد أمر السادات بمبادلتها في صفقة سرية بمصريين وعرب، كان وراءها الصهيوني هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي وذلك قبل زيارة السادات لتل أبيب، في مداعبة سياسية مقصودة للتمهيد لمعاهدة السلام في كامب دايفيد. أما الأشهر على الإطلاق في عمليات التبادل الفاشلة . . والعلنية، فكانت لمقايضة إيلي كوهين – كامل أمين ثابت – سيد جواسيس الموساد في سوريا، وأسطورة الموساد الذي لم يخلفه أحد عبقرية وذكاء. حيث رفضت سوريا وساطات أكثر من 84 رئيس دولة ومنظمة عالمية للإفراج عنه، مقابل ملايين الدولارات ومئات الأسرى السوريين في معتقلات العدو، ونفذ فيه حكم الإعدام شنقاً أمام عدسات التليفزيون على الهواء مباشرة في 18 مايو 1965، وأبقى جثمانه معلقاً هكذا لأربعة أيام فوق المشنقة التي أعدت له خصيصاً بساحة المرجة في دمشق. وفي 21 فبراير 1973 وقعت حادثة لم تتكرر أبداً من قبل، عندما حاول الصهاينه اختطاف الطائرة التي تقل عميلة الموساد هبة عبد الرحمن سليم عامر، التي استدرجت من باريس الى بني غازي بواسطة المخابرات المصرية ، وطارت بها الطائرة الى القاهرة لمحاكمتها. حيث عمدت الموساد الى التشويش على أجهزة الطائرة الملاحية ففقدت اتجاهها. وعندما اكتشف الطيار أنه يطير فوق سيناء اتجه بأقصى سرعته ناحية القناة، متجاهلاً إصرار طائرات الجو الصهيونيه على الهبوط بطائرته في فلسطين. ففقد الصهاينه صوابهم وفجروا الطائرة بركابها في الجو، معتقدين بأنهم قتلوا عميلتهم قبلما تعترف. لكن صدموا بشدة عندما اكتشفوا بأنهم أسقطوا الطائرة الليبية البوينج 747 بطريق الخطأ والتي كان ضمن ركابها المذيعه المصريه سلوى حجازي وأن طائرة هبة سليم الحقيقية استخدمت ممراً جوياً غير معلوم.
تلك لمحات مختصرة عن أشهر قصص عمليات المبادلات والعروض والقتل، التي وقعت أحداثها بين مصر وسوريا والعدو. ولم تكن هناك سابقة واحدة لعملية تبادل بين الصهاينه والفلسطينيين. لذلك . . كانت الأعصاب متوترة ومجهدة، فالعدو يخشى غدر الفلسطينيين بهم على أرض مطار لارنكا، ويشهد تاريخهم الطويل في الكفاح وخطف الطائرات على أنهم رجال ذوو بأس . . وإصرار . . أما الفلسطينيون . . فقد وضعوا تاريخ العدو الدموي نصب أعينهم . . وتوقعوا مذبحة بشعة ستدور أحداثها في قبرص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق